***********************
فأجاب الألوسي على رسالة القاسمي السابقة بقوله : " سرّني ما كان
من المراسلة بين السيد محمد المكي وبين السلفيين في دمشق. وهذا الرجل أعرفه منذ عدة
سنين ؛ فإن كتابه "السيف الرباني" لما طُبع في حضرة تونس أرسل منه لنقيب بغداد
عدداً كثيراً من نسخه، فأعطاني النقيب يومئذ نسخة منه، فطالعتها فرأيت الرجل من
الأفاضل، غير أنه لم يقف على الحقائق، فلذلك استحكمت الخرافات في ذهنه فتكلم على
السلفيين، وصحح بعض الأكاذيب التي يتعلق بها مبتدعة الصوفية ، وغير ذلك من تجويز
الاستغاثة، والتوسل بغير الله، وإثبات التصرف لمن يعتقد فيهم الولاية، والاستدلال
بهذيان ابن دحلان ونحوه... كما ترى بعضاً من ذلك في الورقة المنقولة عن كتابه.
فأرسلت له كتاب "منهاج التأسيس" مع التتمة المسماة "بفتح الرحمن"،
وذلك سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، وكان إذ ذاك في تونس لم يهاجر بعد، ولم
أعلمه بالمرسل، ويخطر لي أني كتبت له كتاباً أيضاً التمست منه أن يطالع الكتاب كله
مع التمسك بالإنصاف، ولم أذكر أسمي ولا ختمته بختمي، وأرسلت كل ذلك إليه مع البريد
الإنكليزي. وبعد ذلك بمدة هاجر إلى القسطنطينية، وكان يجتمع كثيراً مع ابن العم علي
أفندي ويسأله عن كتب الشيخين ويتشوق إليها.
وقد اجتمع به ابن العم في هذا
السفر الأخير
وأخبرني عنه أنه الآن تمذهب بمذهب السلف قولاً
وفعلاً وأصبح يجادل أعداءه، ويخاصم عنه . ولم يزل يتحفني بسلامه، ويتفضل
علي بالتفاته ". ( المرجع السابق ، ص 113-115 ) .
***********************
قلت : وقد أرسل ابن عزوز
بعد هدايته للسلفية رسالة إلى الشيخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة "الكويت"
قال فيها : " دخل علي السرور ما الله به عليم في التعرف بكم وظفري بصاحب مثلكم،
وذلك أن قلبي موجع من غربة العلم والدين وأهله وقلة أنصاره. وإيضاح هذا: أني لست
أعني بالدين الدين الذي قنع به أكثر طلبة العصر والمنتسبين إلى العلم في الشرق
والغرب من كل مذهب من مذاهب أهل السنة. سارت مشرِّقة وسرت مغرباً * شتان بين
مُشــرِّق ومغرِّب
ولكني أعني بالعلم والدين علم السنة، وما الدين إلا
اتباعها وإيثارها على عصارات الآراء وهجومة المتفقهة، وما التوحيد إلا توحيد السلف
الصالح، وأما غيره فأشبه بالضلالات وزلقات الهفوات... إننا نجد فقيهاً تقياً محباً
للسنة ومبغضاً للبدعة، متعففاً من تناول الحرام، واقفاً موقف النصح والإرشاد للخلق،
حسن النية، لكنه جاهل بعبادات النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه في شؤونه
كلها.
وقد يكون عارفاً بها أو ببعضها، ويترك المتابعة النبوية عمداً، لأنها
خالفت قول فقهائه، ولو تخبره بإصلاح عبادة أو تحرير حكم شرعي بنص نبوي ينفر منك
نفرته من العدو، ورآك مخادعاً ، ولربما اتخذك عدواً مبيناً بعد المحبة والصحبة
ويحكم بضلالك ، كل ذلك لغلوه في التقليد، ولا يخفى أن أولئك لا يقال لهم علماء إلا
مجازاً خلاف في ذلك كما قاله ابن عبدالبر وغيره، وتجد آخر متفنناً بعدة علوم، وربما
يكون مطلعاً على دواوين الحديث نبيهاً، له همة تنبو به عن التقليد، يبالغ في تتبع
الأدلة، فينقلب عن الدين وغيرته في اعتقاد تأثير الطبيعة، حتى ينكر معجزات
الأنبياء، وينكر كونها خارقة للعادة ونحو ذلك من القول بنفي حشر الأجساد في الآخرة
ونفي تناسل البشر من آدم وحواء. الخ. وإياها أعني في عدة مباحث من (العقيدة
الإسلامية) التي رأيتموها بجدة، وبعض هؤلاء أيضاً لهم حسن نية في تعديهم الحدود،
فهذان الفريقان اللذان هما على طرفي نقيض، أحدهما مُفرط، والآخر مُفَرط، كلاهما
يعدهما المغفلون من علماء الدين، ولكل منهما أتباع وأنصار. (انعق بما شئت تجد
اتباعاً) .
والقسم الثالث: وهم الأوسطون الذين تفقهوا بفقه الأئمة رضوان
الله عليهم، واعتنوا بالحديث الشريف مع تفنن في الأصول والعلوم العربية، ودققوا
مسائلهم الدينية، فما كان من الفقه سالماً من مصادمة سنة بقوا عليه، وما صادمها
نبذوه وعذروا قائله بعدم بلوغ الخبر له، هذا فيما يتعلق بالعلم العملي، وأما
الاعتقادي فهو معذور في الابتداء في كتب المتكلمين، ثم يترقى بطريقة السلف ،
ولا تؤخذ حقيقتهما إلا من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الذي هو
نسخة صحيحة لا تحريف فيها الشمس ابن القيم، فيعتقد ما هناك بأدلة متينة
وإيمان راسخ، فيصبح من الفرقة الناجية التي عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم
على ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا القسم الثالث الذي هو
على الصراط المستقيم، المدعو بالهداية إليه في الفاتحة بكل ركعة، قليل في الوجود مع
الأسف، قال الله تعالى: ( وقليل من عبادي الشكور) فأنا أنظر شرقاً وغرباً فأرى كما
قيل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم * الله يعلـم أني لـم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحداً
وربما أجد
في مليون من الخلق واحداً، فأنا أشد فرحاً من ولادة ولد ذكر لابن الستين الفاقد
البنين، ولهذا سررت بكم بعدما تتبعت كتابكم الذي أهديتموه لي، لأني طالما انخدعت
للمدعين بطريقة السلف اعتقاداً وتحري السنة تفقهاً، فأجد من آثارهم عند إمعان
النظر، أنهم ليسوا الذين أريد، ولذلك وقفت النظر في كتابكم، وأنا معذور، إذ لم يسبق
بيننا تعارف ولا مذاكرة، فوجدتكم والحمدلله من الضالة التي أنشدها، وأيده كتابكم
الخصوصي الذي أرسلتموه لي،
فجزى الله علامة العراق خيراً السيد
شكري، حيث دلكم على إجراء وسيلة التعارف بيننا، وكذلك صديقنا الكامل السني
السيد محمد نصيف في اطلاعكم على رسالتنا التوحيدية، وهذا كله يظهر مصداق الحديث
الشريف (الأرواح جنود مجندة) الخ..
(ومنها بعد كلام طويل وسطور كثيرة) ..
أحبابنا غرّوكم بالعاجز، فكما أنه لا يقبل قدح العدو في عدوه، فكذلك لا يقبل إطراء
الحب لحبيبه، والذي نفسي بيده إني لخال مما تظن ويظنون فلا علم ولا عمل ولا صلاح
ولا إخلاص، ووالله ما هو من هضم الأفاضل أنفسهم تواضعاً بل الإنسان على نفسه بصيرة،
وأحمق الناس من ترك يقين نفسه لظن الناس، وأنا أحكي لكم مقدار بضاعتي تحقيقاً كأنكم
ترونني رأي العين، والله على ما نقول وكيل. أما الأصل والنسب فلا نتعرض له كما قيل:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي
فأنا قد
ربيتُ في معهد العلم من صغري، وقد وسّع الله علينا من رزقه، ما سهل به القراءة زمان
التعلم والإقراء على شيوخ عديدة على اختلاف مشاربهم وتفاوت درجاتهم تفنناً
وأخلاقاً، وارتحلت إلى بلدان عديدة، فجمعت بعض ما كان متفرقاً من العلوم والحمد
لله، ولكن لهو الشباب حال بيني وبين الاستكمال في العلم والتهذيب، وأيضاً لا نعرف
في بلادنا المغربية إلا التقليد الأعمى، فقد كنا نعد الفتوى بحديث البخاري ومسلم
ضلالاً، وكما شدد علينا شيوخنا في ذلك، شددنا على تلاميذنا هناك، فالتاجر كما اشترى
يبيع ويزيد المكسب، فمن ذلك أني عند سفري إلى المشرق استعار مني ابن أختي الخضر ابن
الحسين الذي لقيتموه في المدينة (نيل الأوطار) للشوكاني، فما تركته حتى أقسم لي
بالله أنه لا يتبعه فيما يقول، ومن ذلك أني وجدت في عام 1300 كتاب (الروضة الندية)
للسيد صديق حسن خان يباع عند كتبي في مكسرة ، اسمه الشيخ الأخضر السنوسي العقبي،
فنهرته وزجرته، وقلت له: حرام عليك تبيع الروضة الندية، فصار يعتذر بمسكنة كأنه فعل
خيانة،
أما تصانيف ابن تيمية وابن القيم فو الله ما نظرت فيها
سطراً لنفرة قلوبنا منها، ومن جهل شيئاً عاداه. لكن في العاجز رائحة استعداد
وشوق للدليل، فلما ارتحلت إلى المشرق سنة 1316، واطلعت على كتب أهل هذا الشأن
باستغراق الوقت
لا واشي ولا رقيب، وأمعنت النظر بدون تعصب،
فتح الله على القلب بقبول الحقيقة، وعرفت سوء الغشاوة التي كانت على بصري، وتدرجت
في هذا الأمر حتى صارت كتب الشوكاني وصديق خان وشروح بلوغ المرام وما والاها أراها
من أعز ما يطالع ،
أما كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم فمن لم
يشبع ولم يرو بها فهو لا يعرف العلم. ويلحق بها كتب السفاريني،
وجلاء العينين للسيد نعمان، وآثار إبراهيم الوزير ونحوهم، ومنذ عرفت الحقائق،
استرذلت الحكم بلا دليل والحمد لله (وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً) .
ومن
اللطائف أن في الشهر الأول والثاني من انفتاح البصيرة، ألقي إلي في مبشرة منامية
قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله
المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). والحاصل فما ذكر لكم من تلك المناقب
لم ألبس منها ثوباً قط، وإنما أنا محب لأهلها، وذاب عنهم، وناصر لهم، ولعله يشملني
حديث (المرء مع من أحب) فمن وصفني بما زاد على ذلك، فقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير
ضرم " ( المرجع : مجلة الكويت ، الجزء 10 العدد الأول ، ورسالة : المكي بن عزوز -
حياته وآثاره ، للأستاذ على الرضا الحسيني ) .